• الموقع : حسن بن فرحان المالكي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والكتابات .
              • القسم الفرعي : تغريدات .
                    • الموضوع : من ذكريات المطر..! .

من ذكريات المطر..!

فضيلة الشيخ حسن المالكي يكتب تغريدات عن ذكرياته مع والده فضيلة الشيخ فرحان المالكي بعد وفاته بشهور

وذكرياته في بني مالك في المطر.

 


في صيف 1393 هـ - 1972م تقريباً، كنت مع والدي في فناء ذلك ( المفتول الدائري) أنظر معه إلى المطر القادم من نيد الشقراء
كان نيد الشقراء جبل متوسط يقع شمالاً منا بنحو 3 كم وهو يفصلنا عن الداير شمالاً، منه كنا نرى الأمطار قادمة داكنة اللون مع ميل للون البرتقالي، كان الوالد ينشد للمطر، كنا في شوق إلى هذا المطر بعد جفاف، كنا نسمع نشيد الجيران ويسمونه ( التوليشة، يولّش) أي يرحب بالمطر بصيحات مع طرق جميل.
كنت تلك الأيام في سن السابعة تقريباً، كنت أراقب فرحة الوالد في صيحاته وأناشيده ودعواته (يا الله يا الله) ، كانت المطر الداكنة تزحف في (سبولها)، والسبول جمع لا أعلم له مفرداً يعرفها أهل الجبال في الأمطار، وهي مجموعات مطر مكثفة عموياً، تظهر وسط الأمطار كألأعمدة البيضاء الضخمة..
كنت أنا أحس صدري ممتلئاً ببهجة أكاد منها أطير، أحس بروح المطر قبل وصولها تدخل قلوبنا، تحس أنك أخف وزناً وتضطر للصياح بأي كلام.. فرحة وابتهاجاً!
وكان همي الأول تلك الأيام أن تمتليء البركة الجديدة التي حفرها لنا العليلي في سفح جبل قريب.. لم يكن عندنا بركة من قبل، كنا نرد المدرة والثغرة، كان الوالد فقيراً لم يستطع حفر بركة إلا في هذا الوقت.. 

كنا نرى بركة هادي، وبركة جبران حسن، وبرك سلمان حسن، ونحن بلا بركة..
الآن عندنا بركة!
كان عندنا ( كري صغير) والكري هو حفر في صخر يحتفظ بالماء لأيام معدودة، وأما البَرْكة فهي ماء دائم، تغنيك في الشرب على الأقل عن المياه المالحة، كانت مياه البرك نسميها ( وَهَب) ونحب نستلذ بشربها، لأنها من السماء مباشرة، وأما مياه الأودية فنسميها ( عادة) وتكون مالحة، نشربها تعبطاً.
كانت فترة جفاف طويلة كدنا أن نيأس فيها من المطر.. كان الأعشاب والخير قد أنتهى.. لا تكاد تجد شيئاً أخضر إلا في كبار الأشجار التي نقطعها للأنعام
زحف المطر الداكن - البرتقالي - لوجود الشمس نحو المغيب، زحف من نيد الشقراء إلى الشعف ثم ظهر علينا من فوق العتمة وغوال ( حسن جودة) .. شيء مهيب!
لم ينقطع الوالد عن النشيد الترحيبي بالمطر ( التوليش).. وترديده يا الله يا الله!
وخرج أخي عبد الله وسط المطر من الفرحة فناده الوالد: أن عُد!
وما هي إلا لحظات إلا ونحن نرقب بدايات سيول الشعاب ( في الجبال) تتضخم شيئاً فشيئاً، إلى أن أصبحت السيول كأنها ثعابين برتقالية في جدار بنيّ!
السيول في شعاب الجبال ( ونسميها اللحوج = جمع لحج) كان منظرها رائعاً جداً، كانت ضيوفاً على الأرض والمدرجات والناس..  نشعر أنها تنجدنا وتفهمنا.. كأنها تنادينا وتقول جئنا لنجدتكم.. لملء برككم ( جمع برْكة)..
لإنعاش دوابكم..
لإنبات عشبكم..
لاخضرار أرضكم..
لزراعتكم..
نحن أصدقاؤكم..
نحن نحبكم..
كنت أراقب البركة أمامنا ( ونسميها المثمل= نوع من البرك المتوسطة)، كانت لها ساقيتان، رأيتهما يتدفقان بالسيول
لكن عيني على ( البركة متى تتدفق)، بعد حوالي نصف ساعة رأينا منخر المثمل ( البركة) يتدفق بقوة، فقد امتلأ، وأصبح بإمكاننا الشرب منه.. كنت ألآن أريد أن تنتهي المطر لأرى البركة.. المطر في نهاياتها... بقي ( وشل قليل)، لم أصبر أنا وأخي عبد الله، انطلقنا نعدو إلى المِثْمَل ( تلك البركة التي حفرها العليلي)ولحقنا الوالد، فتحنا باب البركة ، رأيناها بحراً، ومازال منخرها ( مفتح لتصريف الماء الوائد) يثعب بالماء..
كان منظراً لا أنساه..
هذه بَرْكتنا ملأى بالماء!
كنا نرى الماء ( البحر) في البحر بكل شيء، نراه بعيوننا وقلوبنا وعقولنا.. كنا نشعر بأن أرواحاً أضيفت لأرواحنا.. أشعر بتزاحم الأرواح في صدري!
بعدها انطلقنا نتفرج على السيول وقد ملأت المدرجات الجميلة.. ذهبنا إلى شط حسن سيار لنراقب سيل وادي الجنية.. رجعنا إلى الدحرة لنراقب الشلالات، كان حديثنا عن المطر في تلك الليلة.. نشتاق للصباح لنرى كيف ستكون الأرض..
كان الوالد يخبرنا بأن ( الرعي = العشب) سيطلع بعد يومين وستشبع النعاج..


في صباح اليوم التالي..
انتبهنا مع أول ما سمعنا ( الملكد = المفراز) والوالدة تعد القهوة.. كانت القهوة مع البخور أول ما تعمله الوالدة.. قهوة وبخور يدفئنا من البرد.. أصوات العصافير مرحبة باصباح وآثار المطر في اليوم الجديد.
خرجنا رغم البرد نتفرج في الدنيا.. الأشاطي السفلى والجبال، كان الماء ما زال مستقراً في بطون بعض الأشاطي، الشمس ترسل أشعتها الذهبية على رؤوس الجبال ثم تهبط بهدوء نحونا.. مع أصوات النعاج والأبقار والطيور
أفطرنا، وسرحنا الأبقار في سفح جبل قريب، لا نتركها تدخل المدرجات من أجل ألا تخربها، فهي حتى الآن ( رمك = رمكٍ) -بكشكشة قيس في نطق الكاف.
ذهبت بالنعاج لأطلعهن من عند المثمل، لتصعد الجبل وتبحث لها عن شيء.. كنت أرى صغار الأعاشب بدأ بزوغها.. وخاصة ( عشب السعدة) فهو نوع سريع النمو، أيضاً أصبحنا نشرب من ماء البركة الجديدة، نشرب أحياناً بدون ظمأ.. وإنما هكذا، من باب الإثبات لأنفسنا أنه صار معنا (بركة)!.. وأن ماءها ألذ من غيرها، أيضاً أصبحنا نشرب من ماء البركة الجديدة.
هي ثلاثة أيام والأرض خضراء، الأبقار تتخضع ( الأيْبد) في الحياف، والنعاج مع عشب السفوح والأغنام (عندنا هي المعز) تصعد أشجار الحمرار والظهياء!
سألت والدي قبل وفاته - عن العليلي الذي حفر لنا المثمثل - فقال : ما زال حياً.. وهو عند آل علي ( قبيلة بني مالك الشمالية)..
وأتمنى لو أراه اليوم.
كانت هموم الطفولة تلك ألأيام في قطرة مطر ..ومشاهدة دابة تأكل وتنعم بالعشب.. كانت تأكل نيابة عنك.. أو تشعر أنك تأكل العشب معها غبطة لها!
كانت الطفولة وسعادتها في مشاهدة عصفور يعمر عشه، في رؤية سنابل الدخن والغِرب متدلية، في مطاردة جرادة صفراء، في بزوغ قمر من فوق جبل قشش!
لم نكن نعرف الواقدي ولا ابن تيمية ولا وهابية ولا شيعة!
كنا بسطاء.. فطرة مريحة.. إنسانية أولى.. بهجة بالطبيعة الخضراء.. أنسٌ بالقطط والبقر والأغنام!
فرحتنا تلك ألأيام في رؤية عجل راكضٍ في (الثاهرة) أو (جدي) يقفز بخيلاء أو (فرير) برائحة الوجود! أو قط صغير جميل، عيناه تحكي البراءة!
لم تكن الأرض كبيرة..
الأرض يحدها جبل منبه من الجنوب ونيد الشقراء من الشمال وجبل قشش من الشرق وجبل فيفاء من الغرب!

هذه هي الأرض كلها!
أهل المدن لا يعرفون لذة المطر، لم يشاهدوها زاحفة نحوهم.. لم يشاهدوا ( سبولها ) = تلك الأعمدة البيضاء.. لم يشاهدوا تدفق السيول عبر شعاب الجبال.
أهل القرى - وخاصة من يسكن منهم الجبال - يرون هذا كله.. ويرون بركات المطر وآثارها على الأرض.. يشاهدون فرحة الطيور ويشاركون في اغتباط المواشي.
المطر في القرية بركة، وفي المدينة كارثة!
المطر في القرية آية، وفي المدينة عقوبة!
المطر في القرية انتشار، وفي المدينة انكفاء!
مطر القرية آخر!
هذه الذكرى - ذكرى مطر نيد الشقراء - لا أنساه
أتى بعد جفاف طويل، وبعد امتلاكنا بركة لأول مرة!
فرحٌ، كأننا حققنا انقلاباً في دولة عسكرية! 
هههه
لا أظن أن أحداً فرح فرحتنا بها..

أظنها تجمع فرحة المسلمين بانتصار بدر، وفرحة بني إسرائيل بانفلاق البحر، وفرحة عبد الرزاق بتصدر النصر!
هههه
أقولها تسلية لابني عبد الرزاق فهو في المستشفى ويحتاج لطرفة
طبعاً كلنا اتحاديين!
لكن عبد الرزاق انشق عنا وأصبح نصرواياً!
ونحن نتربص به!


  • المصدر : http://www.almaliky.org/subject.php?id=586
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 04 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29