• الموقع : حسن بن فرحان المالكي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والكتابات .
              • القسم الفرعي : تغريدات .
                    • الموضوع : رحلة السراة - زهران وغامد (2) .

رحلة السراة - زهران وغامد (2)


                رحلة السراة - زهران وغامد (2)           

                              في قرية الأطاولة بزهران...
                          - وقفة تامل وسكون في مكان -       

كنت مع المستظل بتلك الشجرة ، وقد ارتاح قليلاً بعد إصلاح ما هدمته السيول في هذه المدرجات الزراعية، كانت زوجته قد ذهبت له بكسرة خبز وشيء من لبن وقهوة، سيستريح قليلاً ويستمتع ببهجة الصباح بعد ليلة مطيرة ..


كنت مع الزميلين أبي محسن الزهراني وأبي حمدان الغامدي، أثناء ما كنا نتأمل ما داخل متحف الأطاولة بقريش زهران، من أدوات قديمة، وأثناء تجولنا بين بيوت هذه القرية وحصونها ومدرستها ومسجدها وأماكن وضوئها، كنت معهما ولست معهما، كنت أجاملهما بالسؤال والحديث والوقوف للتصوير .. لكنني لم أكن هناك..
كنت مع الشيخ في حصنه مع مطلع الشمس ، نشرب قهوة الدلال العظيمة، مع اختراق خيوط الشمس لهذه النوافذ، فتظهر لنا الذرات مع كنس البيت وإشعال البخور..
كنت مع المرأة وهي تحلب بقرتها، رابطة عجل البقرة بوتد في الجدار، حابسة له عن المشاركة حتى تنتهي من ملء القربة (الدباء)، ثم تطلقه لاستكمال رضاع ثلث ما تبقى من الضرع والثلث كثير..
كنت أسمع ضجيج المكان، بين أصوات الطيور وثغاء الشاء وخوار البقر ونباح الكلاب..
كنت أسمع خرير الغدران التي أحياها المطر..
كنت أرى ذلك الجمل المنفرد عن الإبل، وتلك الطيور الطيلقة في السماء..
كنت أرى الصبايا وهن يرعين الأغنام والمواشي في وادي بيدة.. كنت أرى معهن ذلك الصبي وهو يحول أن يصطاد العصافير الغريبة ..
كنت مع التاجر في سوق الربوع - شمال لأطاولة - وهو يعرض بضاعته في ظل جدار صغير، وكنت مع المتسوق وهو يتعرف على البضائع الوافدة من بني الحارث وبني مالك وثقيف وعتيبة وغامد والبقوم وبعض خثعم وشهران..
كنت مع المستظل بتلك الشجرة ، وقد ارتاح قليلاً بعد إصلاح ما هدمته السيول في هذه المدرجات الزراعية، كانت زوجته قد ذهبت له بكسرة خبز وشيء من لبن وقهوة، سيستريح قليلاً ويستمتع ببهجة الصباح بعد ليلة مطيرة ..
كنت مع الصاعد في هذا النقيل يريد الذهاب إلى بعض أخوته في الجانب الغربي من زهران خلف ذلك الجبل ليستعير منهم الثورين (دهمان وريحان) لحراثة الأرض ..
كنت مع الأم التي توقد الأثافي وتشكو غرق الحطب وبطء اشتعاله.. كنت أرى دخان الأثافي ينبعث من كل بيت من بيوت القرية المتضامنة بمساكنها وناسها..
كنت مع مدافن الحب وأكياس الرمان والعنب.. كأنني رأيت كيف يخلطون بعض الحبوب بالرماد حماية له من السوس..
كنت أرى الناس يصعدون وينزلون ويتنادون ويزرعون ويرعون ويبنون.. كنت أراهم مع كل طريق جمّالية، بجمالهم وحميرهم محملين بضائعهم إلى سوق الربوع؛ أرى فرحهم بالعرس وأفراحه؛ بالختان ورقصاته..
كنت أرى الطلاب وفرحتهم بالمدرسة الجديدة..
كنت أرى في عيون الكبار تعجبهم من الثياب البيض لأولاد (المعلامة) وكأنههم ذلك المرو الأبيض في تيجان الحصون .
كنت أيضاً أعيش في طموحاتهم البسيطة (بيت وزوجة وبقرة ومزرعة ومحجر أو حمى)..
كنت احاول اختطاف خواطرهم السريعة ومشاعرهم المهملة وآمالهم القريبة ورضاهم بالقليل .
هموم الناس في القرية الوادعة بسيطة متواضعة، لكنها الحياة كلها.. لم يكن الواحد منهم يمتلك خارطة طريق مثلنا، دراسة لمراحلها الثلاث، ثم جامعة، ثم تكوين الذات، ثم زواج ثم بيت ..الخ ، هذه خرائط الطرق لم يكونوا يعرفونها، هذه أخذت من إحساسنا بأنفسنا، بقراباتنا، بعيشنا اللحظة واستمتاعنا بها، أفقدتنا الكثير من المتعة بالمكان والزمان والزرع الوفير والخضرة الدائمة والأفياء المطلة والغيوم المدللة..
كما أنني لا أهمل العبرة والاتعاظ؛ فأقول في نفسي، يا ترى من بنوا هذه الحصون العظيمة وأصلحوا هذه المدرجات وأقاموا هذا العيش وعانوا هذه المعيشة؟! كيف كانوا أيام استواء الحياة واستقرارها؟! هل كانوا يظنون أنهم سيغادروننا؟! أليس في هذا الإنسان نسيان للمآلات؟ أليس فيه اغترار بالقوة - أيام قوته ورفاهيته - وكأنه لن يفنى ولن يموت؟
لا أتحدث عن كون الإنسان ينكر اليوم الآخر، كلا، لكن؛ قد يكون قليل التفكر أيام قوته، ثم تدركه البصيرة فتلقمه الحكمة ويعمق النظر بعد أن يذهب أطيب عمره، ويبدأ بالحزن على ما مضى ويتأمل فيما ما تبقى ...
كل هؤلاء فقدوا آباء وأبناء وأمهات وأخوات ... كيف عاشوا؟ كيف صبروا؟ كيف اعتبروا؟
خواطر لا تنتهي ، ومن تعود على التأمل عقل..
نحن أيام الشباب لا نمعن النظر، لكن المشيخ يجلب الذكرى..
سامحوني هذه ثرثرة ... لي طريقتي في الاكتناز بالمكان وبقية أطيافه وأفكاره وأرواح ناسه..

  • المصدر : http://www.almaliky.org/subject.php?id=1459
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 08 / 05
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28