• الموقع : حسن بن فرحان المالكي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والكتابات .
              • القسم الفرعي : تغريدات .
                    • الموضوع : كيف نفهم تأثير السياسة في الحديث؟ .

كيف نفهم تأثير السياسة في الحديث؟


                  كيف نفهم تأثير السياسة في الحديث؟


أهل الحديث لا يعترفون بالأثر السياسي  على الحديث - وهو ركيزة العلوم الأخرى من فقه وعقائد - فهل من إثبات؟
أهل الحديث - وهم رأس الرمح في العلماء - يرون أنهم كانوا مهنيين في فرز الحديث وومعرفة دين الإسلام؛ وأنهم الامتداد الطبيعي للإسلام؛ عقيدة وفقهاً؛ وأهل الحديث يختلفون عن غيرهم، بأن ثقتهم بمنهجهم كبيرة جداً؛ لذلك؛ يخضع لهم أهل العقائد والفقه، ويسلمون لهم – غالباً - بما صححوه وما ضعفوه. بل؛ حتى المهتمون بالتاريخ - وخاصة اليوم - تابعوا أهل الفقه والعقائد، بأن أسلم منهج في معرفة ما صح من التاريخ؛ هو اتباع منهج أهل الحديث.
وتطور الأمر؛ حتى وصل بعض المفكرين الأوروبيين، إذ؛ أبدوا أعجابهم بمنهج أهل الحديث، وأثنوا على دقته في تمييز الأحاديث والمرويات. ووصل هذا إلى عامة الناس، فأصبحوا يسألون: هل هذا الحديث صحيح أو ضعيف!؟ وأصبحت لغة عامة عند العوام؛ بل؛ وبعض الأدباء والفنانين والسياسيين..الخ.
تقدير أهل الحديث والخضوع لمنهحهم؛ سيطر على بقية التخصصات الأخرى؛ حتى أن خصومهم المتقدمين - أهل الرأي – أصبحوا؛ لاحقاً؛ لا يختلفون عن أهل الحديث.
بمعنى؛ أن أبا حنيفة مثلاً؛ كان رأس أهل الرأي بالعراق، وكان على خصومة شديدة مع أهل الحديث، بينما الأحناف المتأخرون؛ لا يختلفون عن أهل الحديث؛ بل؛ أصبح الأحناف يبررون بأن أبا حنيفة يحتج حتى بالضعيف، وأنه لا ينكر السنة، وأن بعض أهل الحديث فهموه خطاً، وأن وأن .. وكذا المالكية لحقوا!
وهذا التمدد لأهل الحديث على حساب الأحناف وسائر أهل الرأي ؛ وعلى المذاهب الفكرية؛ كالمعتزلة والأشاعرة؛ كل هذا يحتاج لبحث يكشف أسباب ذلك .أولاً؛ الأسباب في الخضوع لأهل الحديث كثيرة؛ أهمها: -
1- إهمال مراقبة الأثر السياسي فيهم.
2- إهمال عرض (إنتاجهم) على القرآن.
3- اهمال نقدهم هم.
أما الأثر السياسي على أهل العلوم الدينية (وأهمها علم الحديث)؛ فقد جهله أهل الحديث  وخصومهم معاً، لم يناقشوه، إنما؛ أبقوا إشارات يسيرة جداً..
وحتى نقرب (الأثر السياسي) للجميع؛ نقول:
لا نقصد بالأثر السياسي أن الحاكم يأتي لصاحب الحديث ويملي عليه ما يكتب؛ كلا؛ سنشرح معناه بعد قليل؛ أعط مثالاً سيعرفه الخاصة والعامة..
اليوم مثلاً؛ ألا ترون أن علماء الدول المتعادية مختلفون حسب اختلاف الدول؟
لا تستعجلوا ؛ سأذكر استشكالاتكم؛ سأذكركم بمحطات.. ألا تذكرون يوم غزو صدام للكويت؟ كيف اختلف علماء العراق ومعهم من معهم ، مع  علماء السعودية ومصر ومعهم من معهم؟
نطرح أسئلة:
علماء العراق كانوا يفتون بمواجهة (العمالة والامبرالية والاستعمار)؛ وعلماء السعودية ومصر كانوا (مع تحرير الكويت ضد أهل البغي والعدوان)..
سبحان الله.
أليسوا جميعاً يصلون ويصومون ويؤمنون بالله واليوم الآخر؟
بلى.
فلماذا لم يكن خطابهم موحداً؟ لماذا لا ينظر بعضهم في حجة بعض؟ لماذا مثلاً؛ لم يكن خطابهم وفتاواهم واحدة، فالنزلة واحدة ؟
مثلا؛ أن يفتوا بــ: تحريم الظلم العدوان؛ تحريم التبعية لليهود والنصارى والاستعمار..
اختلافهم كان تبعاً للسياسة؛ فعلماء العراق يرون احتلال الكويت حدثاً صغيراً مقابل الوجود الأجنبي؛ وعلماء السعودية ومصر على الضد من ذلك.
فهذا نموذج لفريقين من العلماء الفقهاء؛ كل فريق يرى الجهاد في جهة؛ ولو أنهم كانوا مستقلين؛ ما كان هذا الاختلاف الكبير  يصل (للجهاد المتضاد)؛ والأثر السياسي - بغض النظر عن المخطيء - لم يكن أثره على من باشر التأثير عليهم؛ وإنما تمدد هذا الأثر السياسي ليشمل كل أصحاب البلد؛ هذا أو ذاك!
تأمل الآن: علماء الجهة (أ) يرون جهاد الجهة (ب)؛ وعلماء (ب) يرون جهاد (أ)؛ وعلماء (أ) و (ب)؛ كلاهما، يقولان : هذا دين الله، ولا أثر سياسياً!
خذوا صوراً  أخرى؛ مثال السيسي ومرسي؛ الأسد ومعارضيه؛ القذافي ومعارضيه.. أليس الجميع يصلون ويصومون ويؤمنون بالمعاد ويقولون: لا أثر للسياسة؟..!
فالأثر السياسي إذاً، ليس بالضرورة أن يعترف به أهل الحديث؛ ولا أن يجد الناس براهين تثبت التأثير المباشر بالبرهان (من وثائق ونحوها).
إذاً؛ لنفهم بأن الأثر السياسي هو ثقافة عامة؛ يتم صناعتها وتوجيهها لتبتلع الناس؛ وليست اتفاقاً ساذجاً ولا رشوة مباشرة بين سلطان ومحدث أو فقيه؛ الأثر السياسي هو ثقافة يتم تعميمها ثم استثمارها
مع ضخ معلومات مضللة لا يستطيع الفقيه أن يتأكد بنفسه منها؛ وإنما يصدق السائد لا الشاهد.
فمهمة السياسي  إذاً؛ أن يصنع رأياً عاماً يراه مناسباً لاستقراره حكمه (والسياسي هنا؛ ليس شخص الحاكم؛ إنما جهاز واسع من المستشارين والدهاة)؛ وهذا السياسي ودهاته ومستشاريه؛ ليس بالضرورة أنهم لا يصلون ولا يصومون؛ كلا؛ هم مسلمون؛ ولكنهم يرون في (صناعة) هذه الثقافة مصلحة للإسلام وأهله! وكلامي هنا عن السلاطين المتقدمين ومستشاريهم ووزرائهم؛ أما السلاطين المعاصرون؛ فهم مثلنا؛ ضحية للثقافة السائدة العامة؛ أتكلم عن الماضي وثقافته..
وأيضاً ؛ ليس كل ثقافة سائدة خاطئة أو مذمومة مطلقاً، بل فيها الخطأ والصواب؛ لكن؛ من حيث البناء؛ فالصواب والخطأ؛ كلاهما مبني على وضع غير سليم. مثلما قد تبني منزلاً فوق أرض رملية؛ دون قاعدة صلبة، فينصحك المجربون بإعادة بنائه؛ لأن بناءك له غير سليم، وقد ينهدم في أي لحظة..
إذاً؛ فقد تعتقد؛ أو تعمل  أمراً صحيحاً؛ ولكنك تبنيه على تقليد أو جهل؛ وكان بإمكانك أن تعتقده بعد بحث وبذل وسع؛ ثم علم ثم عمل صحيح؛ ويصبح منهجك.
إذاً؛ فالأثر السياسي على أهل الحديث أو غيرهم موجود، ولكنهم لا يكتشفونه؛ لأنهم واقعون تحت تأثير الراي العام الذي هو مصنوع من السياسي غالباً..
قد يقول البعض: نفهم في علماء وفقهاء الوقت أنهم تابعون للسلطات وعبيداً لها؛ ولكن المتقدمين أرفع من ذلك..
نقول: كلامك فيه ظلم لعلماء الوقت؛ فالقول بأن (علماء الوقت) عبيداً للسلطات - أياً كانت – وبإطلاق؛ هو من ذلك الأثر السياسي، الذي أنتج شعوباً غير قادرين على تحليل الظاهرة بعدل؛ فعلماء الوقت كعلماء الماضي؛ القليل يكون مختاراً للدنيا وبثمن؛ ولكن الأكثر؛ قديماً وحديثاً؛ يكونون تابعين للسائد عن اعتقاد جازم بأنه حق؛ وإذا كان الله قد ذكر عن المنافقين أنهم: (لا يعلمون) و (لا يشعرون) و (يحسبون أنهم مهتدون)؛ فهنا التحليل القرآني أعمق من الاتهامات السهلة.. من السهل جداً، أن تقول "هؤلاء علماء سلاطين.. علماء فلوس.. علماء أحزاب.. علماء عامة.."؛ لكنك بهذا؛ تقطع الطريق على البحث العلمي المفيد في تصنيف الناس. وخطوات البحث الإنساني (منهج البحث العلمي) أجدها تتفق مع التحليل القرآني للنفسيات والشخصيات، أكثر مما نراه في عجلة التصنيفات  السريعة.
بمعنى؛ تفرض الفروض... مثل:
1- هل هؤلاء (كأهل الحديث) مثلاً، متأثرون بالسلطات في زمنهم؟
2- أم يتبعون ثقافة سائدة تمت صناعتها من قبل؟
ثم؛ إذا علمنا بأن بعضهم لم يكن متصلاً بالسلطان؛ بل بعضهم سجنه السلطان؛ فكيف يستقيم أنهم (وعاظ سلاطين)؟
هنا لابد للمنصف أن يبحث عن أسباب أخرى؛ وفي عهد النبي مثلا؛ ألم يذكر القرآن المنافقين؛ والذين في قلوبهم مرض؛ والسماعين للمنافقين؛ والمذبذبين؛ والمتربصين الخ..؟ أي سلطة أجبرتهم على هذا؟
فتحليل الشخصيات والجماعات يحتاج لعلم؛ أما أن تهاجم الجهل بجهل؛ فهذا يسهم في بقائه أو استبداله بجهل آخر..
نريد حلاً.. نريد علماً.. نريد صدقاً.
الأثر السياسي - أيضاً - ليس مذموماً كله؛ هو كالرأي العام؛ يحتاج لتمييز الحق من الباطل، ولكن؛ ممن يستطيع الغوص بعلم ودين وعقل .. وليس بالمخاصمة؛ دينياً؛ يجب أن تنسى نفسك ومصالحك ومكانتك وحزبك.. إذا أردت التحليل النافع الصادق الذي يبقى للأجيال.
وبحثياً؛ تحتاج لفرض الفروض واختبارها:
الخطوة الأولى:
احذر عندما تقول علماء العراق كذا.. وعلماء السعودية كذا.. وعلماء مصر.. وعلماء سوريا.. وعلماء اليمن.. الخ؛ فأنت تقفو ما ليس لك به علم.
نعم؛ تستطيع؛  بعد بحث المادة (تراث مذهب مثلاً)؛ أن تقول
هذا التراث متطرف؛ هذا التراث أغلبه تكفيري؛ أو معظم أدلته ضعيفة.. وهنا كلامي للباحث؛ أما العامي الذي ليس له اطلاع؛ فيمكنه - إذا وثق في شخص؛ بناء على ملاحظة وتتبع؛ لا هوى - يمكنه أن يقول: أنا مقتنع بفكرة فلان؛ أراه صادقاً منصفاً..
نعود للباحثين ونسأل: ما هو الأثر السياسي على (انتاج أهل الحديث، من أحاديث وثقافة وتقييمات للرواة )؟ كيف يمكن أن تعرف الأثر السياسي عليهم؟
أول خطأ يقع فيه الباحثون، أنهم يظنون أن (الأثر السياسي) هو ذلك الأثر المباشر بين أهل الحديث  وبين سلاطين وقتهم؛ فعندما يبحثون لا يجدون..
أعني؛ في الغالب؛ لا يجدون علاقة بين البخاري وسلطان وقته؛ ولا مسلم وسلطان وقته، ولا بقية أصحاب السنن والمسانيد؛ فيقولون "لا  وجود للأثر السياسي"؛ ولكنهم ينسون أن ما وصل هلاء المحدثين (من أحاديث أو رأي عام عن الرواة) كان قد تشكل من قبل أن يولدوا؛ وكان ألصق بالسياسي من قبل أن يولدوا؛ فصلة هارون الرشيد بعلماء وقته كانت أوضح من صلة المعتمد والمعتضد بمحدثي وقتهم؛ وصلة الزهري ببني أمية كانت أوضح؛ وقبله صلة أبي هريرة بمعاوية..
الأثر السياسي لا يتم بحثه بين المحدث والسياسي المتعاصرين؛ وإنما؛ يتم بحث التواصل القديم بين السياسي والمحدث الذي أنتج ثقافة رأي عام.. فبحث الصلة القديمة بين أهل الحديث الأوائل السلاطين الأوائل، هي البحوث التي سيكشف لنا (الأثر السياسي) بجلاء؛ ثم دراسة مسيرة هذا الأثر.
وبحث الأثر السياسي القديم في أهل الحديث المتقدمين - في ال 200 سنة الأولى - ليست سهلة، فهناك عوائق كثيرة تحول دون النتيجة؛ لكنه يبقى أوضح؛ فالعلاقة بين معاوية مع أهل الحديث في عصره؛ كأبي هريرة وعروة بن الزبير؛ أو بين بني مروان والمحدثين؛ كالزهري والشعبي وغيرهم؛ واضحة جداً..
أعني؛ أن الروايات صريحة في هذه العلاقة  بين الجانبين؛ فهل لها أثر على (تشكيل الثقافة العامة)؟
البعض قد يقول مستغرباً: وما الضرر في ذلك؟ أي؛ أن هذه اللقاءات لقاءات حكام مع علماء حديث وفقه؟ ماذا تريد أنت؟ بل إن من إيجابية السلاطين يومها أنهم يتواصلون مع أهل العلم الخ.. هذه لهم!
هنا؛ لابد أن نستخرج نظريات (قرآنية) في حكم هذا الركون؛ وننظر في (إنتاج هؤلاء المحدثين) من حيث الواقع؛ ثم نعرض الأمرين على القرآن الكريم.. فمثلاً؛ الله يقول: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)؛ فهل هؤلاء السلاطين ظلمة أم لا؟ هذا يحتاج إلى بحث أعمالهم وفق القرآن أيضاً.
بمعنى؛ لا نستطيع تقييم معاوية ولا عبد الملك ولا المنصور ولا الرشيد بنفس ثقافة أهل الحديث؛ لماذا؟ لأن الثقافة نفسها سنحاكمها للقرآن الكريم.. وكما قلت: (القرآن ليس منه غيرة)؛ هو المرجع الأول؛ وهو النور الكاشف لكل ظلمة؛ وهو الشفاء لكل أمراضنا؛ وهو الهدى لمن أقبل عليه صادقاً مخلصاً.. القرآن هو الذي يجب أن يتحاكم إليه الجميع بصدق، وإرادة حق لا باطل؛ أن تقبله لك أو عليك..
القرآن مبين، لا يأتي منه التشويش؛ إنما يأتي منا نحن؛ فإذا وجدنا أن شخصية تاريخية ما، كعبد الملك بن مروان أو المنصور أو الرشيد الخ؛ كان ظالماً وفق كتاب الله، فلا يجوز لنا حماية هؤلاء من القرآن؛ وإذا وجدنا أن هؤلاء أبرياء من الظلم، فهذا يجعل الركون إليهم مباحاً؛ ولكن؛ تحديد ما إذا كان فلان ظالماً أو عادلاً... أمر صعب؛ لماذا؟
لأن البعض لا يرى ما ذكره الله في القرآن من ظلم ظلماً. بمعنى؛ لا يرى قتل النفس المحرمة ظلماً؛ ولا أكل أموال الناس بالباطل؛ ولا.. الخ..!
فما الحل؟
ومدح كثير من الناس للسلاطين الذين تحقق ظلمهم قرآنياً، له سببه؛ فعندهم خلل في تعريف الظلم؛ وأكبر ذلك الخلل هو استبعاد القرآن من مصادر تعريفه؛ ولذلك؛ لابد من بحث (الظلم) قرآنياً، وطبقاته، فبعضه أعظم من بعض؛ وأخفه ظلم النفس؛ ثم ظلم الآخرين؛ ثم الافتراء على الله كذباً، فهذا أعظم الظلم. فإذا وجدنا في سلطان ما في العهد الأموي أو العباسي أنه ظلم آخرين - كقتل النفس بغير حق - ثم لم تُعلم له توبة متيقنة، فهنا يحرم (الركون إليه)؛ لأن (الركون إلى الذين ظلموا) جرح في القرآن الكريم - وهو من أهم الجروحات التي أهملها أهل الحديث - فلا بد من تحقق الأمرين: الظلم؛ والركون. فليس مجرد التقاء سلطان ظالم برجل من أهل الحديث أو الفقه يكون (ركوناً) من المحدث أو الفقيه، بل حتى العمل له؛ كلا؛ فيوسف عمل عند سلطان مصر؛ فقوله تعالى {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} جرح بلا شك ، لأنه ختمه بنار؛ ولكن؛ ما الركون؟
هنا البحث.
لن أطيل؛ هنا إذا؛ وجدنا أن بعض أهل الحديث قد (ركنوا إلى الذين ظلموا) - ظلماً متحققاً-  وكان ركونهم من نوع التأييد والتحسين؛ فهذا جرح قرآني؛ هذا سيخرج علماء الحديث الذين كانوا يفتون بقتل الأبرياء؛ وهذا سيخرج (كباراً) من التوثيق إلى الجرح، حتى ولو صدقوا في الرواية.. لماذا؟
لأن الثقة لا يعني الذي يصدق في الأحاديث لتي (انتقاها)؛ وإنما الثقة هو في تحديثه بما يثق أنه حق سواء؛ رضي سلطانه أم لم يرض.. وهذا بحث كبير.
فالزهري مثلاً؛ هو عالم جليل القدر؛ ولا نتهمه بوضع الحديث؛ كلا؛ لكن؛ ليس كل الضعف هو في وضع الحديث؛ هناك انتقاء وحذف ما يحرج وإدراج زيادة الخ.. فالأثر السياسي على رجل الحديث لا يعني أن المحدث قد يكذب؛ كلا؛ الانتقاء هو الأكثر؛ والانتقاء  - مما صح - من الحديث جرح؛ إهماله بعض الصحيح جرح.
إذاً؛ فالركون إلى السلطان الظالم مستويات؛ أعظمها موافقته له على الظلم والاستبداد؛ وربما إعانته بوضع حديث أو فتوى؛ ثم إماتة أحاديث العدل؛ ثم إماتة أحاديث الحرية والعقل والحقوق ..الخ؛ ثم تجنب أحاديث محاسبة الذات ومراقبة الله ووالخ؛ ثم انتقاء أحاديث ضعيفة في الإرجاء والجبر مثلاً؛ ثم الشغف بالأحاديث الشائعة؛ صحت أو لم تصح في الأمور الصغرى؛ كالحية والغناء والمعازف والمرأة..

لمطالعة "أحاديث المرأة.... قراءة في نفسيات بعض أهل الحديث."على هذا اللرابط «««

بل؛ حتى الحديث في تفاصيل الصلاة؛ قد تكون سياسية؛ فجوانب الركون (الروائي) جرح وخيانة للسنة، مثلما (الركون المادي والمشاركة في المظالم) ظلم وخيانة..
ولكن الركون مراتب؛ تبحث كل مرتبة قرآنياً؛ بل، كتمان (ما أنزل الله من البينات والهدى) هو جرح قرآني يستحق صاحبه اللعنة في القرآن؛ وكم من بينات وهدى لم نجده (في الناتج الحديثي)!.
الفقيه أو المحدث؛ هو مسؤول أمام الله على هذا الدين كله؛ ليس مسؤولاً فقط عن أحكام الضوء والأذان؛ الدين كله؛ وخاصة البينات - الواضحات المحكمات.
نعم؛ قد يكون (المحدث) ضحية لرأي عام، وخاصة كلما تأخر الزمن؛ وقد يكون معذوراً لنشأته في بلد وتلقيه ثقافته؛ وكل هذا يخضع للبحث لمعرفة الراكن.
إذاً؛ معرفة (الراكن) إلى الذين (ظلموا) نحتاج فيه للقرآن؛ فهو المصدر الوحيد الذي يعرفك على مراتب الظلم ومراتب الركون؛ ومتى يصح العذر من عدمه.
أعرف أن الناس مستعجلون؛ يريدون كل شيء بسرعة؛ وهل هذا الراوي كاذب أم صادق؛ وهل هو راكن أم مستقل؛ وهل  وهل.. لكن؛ هذه العجلة منهي عنها قرآناً؛ ولو أن أهل الحديث والفقه وسائر الناس لم يستعجلوا في تلقي الثقافة؛ ثم في بثها؛ ثم في الإلزام بها؛ ما كنا في هذا الوضع الذي يشكو منه الجميع.
نحن نريد - ما أمكن - التأسيس لمنهج بحثي أمين، في تقييم (الناتج الحديثي، أو الثقافة الحديثية)؛ والإحاطة بالإشكالات المصاحبة دون ظلم.
لذلك؛ ليس من مسؤوليتي أن أعطي النتائج كلها، لأني ما زلت أجهل الكثير منها؛ إنما نعطي إشارات للباحثين، للمشاركة في تشخيص الواقع الثقافي .. الواقع الثقافي يقول لنا: الإلحاد يزداد؛ والتطرف يزداد؛ والشك في الدين يزداد؛ والأسئلة ممنوعة؛ والإجابات معدومة الخ..
هذه إشكالات حقيقية.
وإنما؛ بما أني قد رأيت أن الباحثين في الجهتين - المهاجم للثقافة أو المدافع عنها - قد أهملوا جوانب محورية كاشفة للثقافة؛ أحببت الإضاءة هنا؛ وبما أن ثقافة أهل الحديث - بعقائدها وفقهها - هي المسيطرة على الواقع الثقافي، فكان لابد من الإضاءة على هذه الثقافة لمعرفتها وتشخيصها أولاً؛ وبعد التشخيص يتم التقييم وفق المعايير المذكورة آنفاً؛ وأهمها محكمات القرآن؛ التي فيها بيان المؤثرات على (الثقافة) الأولى، من ايام النبي؛ فالثقافة النفاقية سابقة على الأثر السياسي ووالدة له.
ثم؛ الأثر السياسي يحافظ على (إرث الآباء) وينصره بقصد أو بدون قصد؛ وتعطلت ثورة القرآن.. ثورة القرآن، الكامنة في الحرية والمراقبة وتطهير النفس والعدل والمساواة والعقل والتفكر والرحمة والعالمية...الخ؛ هذه كلها ذبلت؛ لماذا؟
إنما قلت ثورة القرآن، لأن مثل (ذم ما وجدنا عليه الآباء) تعتبر ثورة في مجتمع أهلكه الفخر بالآباء والموروثات.. وكذلك العدل؛ لك وعليك..الخ؛ لكن أهل الحديث؛ أعادوا تلك التي ذمها القرآن؛ فعاد الفخر بالآباء (السلف) وما خلفوه؛ وكتم الحرية؛ والاعتداء.. إلخ.. أعادوها فضمرت الثورة القرآنية.
واليوم؛ أكثر ما يدفع الملحدين للإلحاد؛ هو ضمور هذه الثورة القرآنية؛ وانتعاش ما يضادها؛ مما ورثه أهل الحديث من تراث وعقليات ونفسيات وتناقضات.
أختم؛ بأن دراسة (الأثر السياسي) على أهل الحديث وما أنتجوه من أحاديث وعقائد وفتاوى؛ من أهم واجبات الباحث؛ وبالعمق المشروح أنفاً أو أكثر. وأن (الأثر السياسي بعمقه وشموله)؛ ليس إلا عاملاً واحداً من عدة عوامل، كان لها أثرها البالغ على ( الثقافة الحديثية). وأن (الثقافة الحديثية) قد أصبحت الناطق الرسمي باسم الإسلام؛ ومن هنا ضرورة تشخيصها دراستها، حتى لا نسهم في الكذب على الله من حيث لا نشعر؛ فالدين مسؤوليتنا جميعاً.
أعني؛ معرفته كما أراده الله وأنزله.
فلذلك؛ رحم الله من تخلى عن الخصومة والهوى - لو نسبياً - وأسهم في نصرة المعرفة.
سأحاول لاحقاً أن أعلق على بعض ما لم يفهمه بعض الناس؛ أو ربما قصرت في إيضاحه؛ لكن؛ أترككم الآن مع القراءة الناقدة بإنصاف وعلم؛ لأجل المعرفة نفسها.


مواضيع أخرى:

لمطالعة سلسلة "لسان حال السلطة : اعطوهم من هذا الدين حتى يشبعوا وينسوكم!!"على هذا اللرابط «««
لمطالعة " الرد على أحاديث الأقباط"على هذا اللرابط «««
لمطالعة " إساءات أهل الحديث"على هذا اللرابط «««
لمطالعة "حديث "الحمو الموت" نموذج للنقد الحديثي عند الشيخ حسن المالكي"على هذا اللرابط «««
لمطالعة "قراءه ووقفه مع حديث (الشاب الامرد)!"على هذا اللرابط «««
لمطالعة "مناهج منسية عند أهل الحديث! - الجزء الأوّل"على هذا اللرابط «««
لمطالعة "انتهازية الرسول ..في عقيدة الغلاة!"على هذا اللرابط «««
لمطالعة "علم الحديث - أبو هريرة وألأثر السياسي (الجزء الرابع)"على هذا اللرابط «««
لمطالعة سلسلة "علم الحديث - التوثيق.. بين الاهواء والسياسه (ألجزء ألتاسع)"على هذا اللرابط «««

  • المصدر : http://www.almaliky.org/subject.php?id=1548
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 11 / 12
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29